قرقنة مجموعة من الجزر، تقع قبالة الساحل الشرقي لتونس، و تبعد حوالي 20 كم عن مدينة صفاقس. الجزيرتان الرئيسيتان  هما الشرقي والغربي. الاقتراب من الجزر عن طريق العبارة، يضع القادم إليها أمام مشهدا غريب جداً : تبدو المياه مقسمة إلى العديد من الأجزاء ( و هي كذلك في الحقيقة ) بواسطة حواجز من سعف النخيل. هذا ما يسميه سكان قرقنة  الشرفية، وهي طريقة صيد تقليدية ضاربة في القدم تم ابتكارها بشكل ذكي لجذب الأسماك في حجيرات التقاط حيث يتم جمعها في وقت لاحق.


وبما أن الأرض قاحلة، تقتصر  الفلاحة على زراعة الكفاف. فالصيد ركيزة اقتصاد الأرخبيل. يعتبر الأخطبوط بشكل خاص من رموز الجزيرة، يتم  صيده منذ نهاية شهر أكتوبر إلى نهاية أفريل باستخدام طريقة “قرقنية” آخرى: استخدام أوعية على شكل جرار.
المرة الأولى التي سمعت فيها عن قرقنة كانت في 2014 عند إجرائي بحث حول شركة النفط والغاز البريطانية بتروفاك . وتركز البحث آنذاك على الفساد في الصفقة التي حصلت بتروفاك بمقتضاها على امتياز الغاز شرقي سنة 2006 زمن بن علي. استيعاب تفاصيل هذه الصفقة أمر بالغ الأهمية لفهم التطورات الأخيرة في الجزر، والتي كان بعضها عنيفا ومرتبطا بطريقة أو بأخرى بصناعة البترول.

وعلى الرغم من وجود فصل جديد في الدستور التونسي ينص على سيادة الدولة على الموارد الطبيعية، لا تزال شركات النفط والغاز تكسب أرباحا فاحشة وتفلت من العقاب، في حين لا يزال الأهالي يحملون عبء التكاليف الاجتماعية والبيئية لهذه الصناعة.

يعاني الأهالي من منوال تنمية استخراجي مرادف لنهب الموارد والتدهور البيئي. هذا الوضع لا يمكن أن ينفصل عن السياق الحالي الذي تخيم عليه خيبة الأمل بسبب جهود الثورة المضادة التي تشهدها تونس، والتي تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن، التحييد السياسي للمجتمع ووضع قيود على التصعيد المحتمل للمطالب الشعبية.

قرقنة منهوبة بشكل مضاعف و مهددة على نحو مضاعف، بسبب آثار الاحتباس الحراري التخريبية ومن جراء عمليات التنقيب التي تقوم بها شركات النفط والغاز، المصمّمة على جني  أرباح فائقة على حساب التنمية في الأرخبيل.

لا يوجد بلد في معزل عن النظام الدولي للعولمة النيوليبرالية التي تُضعف الدول وتخلّف السخط وعدم الاستقرار والفقر والحروب والثورات. يتناول هذا المقال التواطؤ بين النيوليبرالية وتغيّر المناخ وتبعاته الكارثية على أهالي قرقنة.

البترول، الصيادون الغاضبون وحاملو الشهائد العاطلون عن العمل

زرت قرقنة في مارس 2016، بعد أن سمعت أن هناك سخطا متصاعدا بسبب رفض بتروفاك الوفاء بالتزاماتها في المساعدة على تمويل صندوق تشغيل. جئت من قابس في الصباح الباكر. بعد زيارة قصيرة إلى صفاقس و مينائها الصناعي ( الذي يصدر منتجات الفسفاط)، ركبت العبّارة إلى قرقنة رفقة صديق.

كان على متن العبارة وفد برئاسة الوزير التونسي للبيئة يرافقه طاقم تلفزي.  وجدتني أتساءل عما إذا كان غرض زيارة الوفد نفس غرضي. هل كانوا بدورهم هناك للتحقيق في  التحرك العمالي المتواصل منذ شهرين في محيط بتروفاك؟ الاعتصامات التي نفذها  سكان الجزيرة أمام مصنعها، أوقفت الانتاج جزئيا، مطالبة الشركة البريطانية بالوفاء بإلتزاماتها في مجال التنمية المحلية وخلق فرص العمل.بعد رحلة ساعة، ركبنا سيارة أجرة إلى شاطئ سيدي فرج، معتقدين أننا متجهين إلى بتروفاك. عندما وصلنا أدركنا أنه لم يكن مصنع بتروفاك، بل مقر شركة نفط أخرى: خدمات طينة للبترول   (TPS).وجدنا احتجاج صيادين وليس المعطلين من اصحاب الشهائد  الذين قصدناهم.تبين لي أن TPS شركة بريطانية تونسية، وتستغل هي أيضاً بعض اللزمات النفطية البحرية في قرقنة. كان الصيادون يحتجون على تسرب نفطي كبير مصدره أنبوب تحت سطح البحر. نفت TPS هذه المزاعم، معلنة أن مصدر التسرب بئر على احد منصات الحفر التي تحيط بجزيرة شرقي، والبالغ عددها ستاً.

Fuite pétrolière sur la plage de Sidi Fraj dans les îles Kerkennah – Crédits photo : soseau.net

كان الصيادون غاضبين من التلوث، ليس فقط لأنه يقتل الأسماك و يضر بالتنوع البيولوجي البحري مهددا بذلك مصدر رزقهم، ولكن أيضا لأن TPS حاولت أن نقلل من تأثير الإنسياب،  بل قامت بالتغطية عليه. أفادونا أنها لم تكن المرة الأولى، بل الثالثة أو الرابعة . اصطحبونا إلى الشريط الساحلي ليبيّنوا لنا أين انتهت المادة السوداء (و هي نفط على الأرجح ) وكيف جرت في بعض الأماكن تغطيتها بالرمال لإخفائها عن الأنظار. كان الصيادون المنزعجون يطلبون من TPS أن تتحمل مسؤولية التسرب والضرر البيئي الذي تسببت به، ويطالبون السلطات التونسية بمساءلة الشركة.

و لم تكن زيارة وزير البيئة مثلما توقعتها بالضبط.  كان قد تم بالفعل استقدامه إلى الجزيرة لطمأنة الصيادين والأهالي بأن تحقيقا سيفتح وبأن تدابير ستتخذ لمعالجة الوضع. لكن يبدو أن الهدف من زيارة الوزير لم يكن الإنصات لمطالب الصيادين بل حماية مصالح صناعة النفط  بتجنب التصعيد واحتدام الاحتجاجات، لا سيما وأن غضب الأهالي بدأ يستهدف شركة نفطية أخرى.

بتروفاك: من لزمة فاسدة إلى الانتفاضة

بعد عشر سنوات من الحصول على رخصة استغلال حقل الغاز شرقي في قرقنة من خلال صفقة فاسدة، وبعد مضي خمس سنوات على انتفاضة تونس من أجل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، تواجه شركة النفط والغاز البريطانية بتروفاك سخطا متزايداً في الجزيرة. في الأسبوعين الأولين من أفريل، كانت قرقنة مسرحا لقمع بوليسي عنيف للاحتجاجات ضد شركة النفط. وجاءت الاحتجاجات والقمع الذي تلاها (بما في ذلك شبهات التعذيب) بعد أن عمدت الشرطة إلى فض إعتصام سلمي دام شهرين أمام مصنع غاز بتروفاك، نظمه حاملو الشهائد العاطلون عن العمل، ممثلين في إتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل. وكان الغرض من هذا الاعتصام الضغط على الشركة البريطانية لاستئناف المساهمات في صندوق للتشغيل كان يؤمن رواتبهم الهزيلة، وكان اغلاقه قد تسبب في فقدان المئات من الناس لوظائفهم.

أتيحت لي الفرصة للحديث مع عدد قليل من الشباب الذين شاركوا في اعتصام فيفري ومارس. وكان الرجال والنساء الذين تحدثت معهم مصممين على الدفاع عن حقوقهم واستعادة وظائفهم (حتى لو لم تكن هذه الوظائف لائقة بما يكفي). لمست استياءهم وغضبهم مما كانوا يعانونه. كيف يمكن أن يكونوا عاطلين عن العمل بينما يتم خلق كل هذه الثروات النفطية والغازية في الجزر؟ ما الذي حدث لوعود ثورة 2011 ومطالب العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية؟ هذه الأسئلة صدى لما كنت قد سمعته طوال رحلاتي إلى تونس. تونس الداخل، بعيدا عن المواقع السياحية المزدحمة، تونس البعيدة عن التنمية، حيث لا يزال الناس يصارعون التفقير والفساد و شتى أشكال الظلم اليومي.

في حين ذهبت الإهتمامات نحو مسؤوليات وواجبات بتروفاك في تطوير الجزيرة والمساعدة على خلق فرص عمل، ظل استحواذها على 45٪ من امتياز الغاز شرقي يقبع في الظل. و كشفت سلسلة من وثائق المحاكم التونسية عن حقيقة  ارشاء بتروفاك  lمنصف الطرابلسي، صهر الرئيس السابق بن علي. الذي أدين في أكتوبر  2011 لقبوله الرشاوى تتعلق بالمساعدة على منج لزمة إستغلال لشركة بتروفاك.

و بالرغم من ادانة الطرابلسي لقبوله رشوة ب-2 مليون دولار ،  فان رجل الأعمال البريطاني والشركة اللذين تبين دفعهما للرشوة تجنبا التحقيق في كل من المملكة المتحدة وتونس، وذلك في افلات تام و مستمر من العقاب. ورد أيضا بوثائق المحكمة اسم أمجد بسيسو، الرئيس التنفيذي لشركة بتروفاك آنذاك، وتبين أنه طلب من منصف الطرابلسي مساعدة بتروفاك على الظفر برخصة لحقل الغاز شرقي. ووفقا للوثائق، نقل بسيسو 2 مليون دولار من حساب في لندن إلى حساب منصف الطرابلسي في بنك دبي الوطني.[1]

ليست هذه المرة الأولى التي تتورط فيها بتروفاك في فضيحة فساد. إذ اتهم أحد مديريها الكبار السابقين بدفع رشاوى قدّرت بـ 2 مليون $ للفوز بعقد في الكويت.  و الغرابة في هذه القضية، هو أن بتروفاك لم تقم فقط بالمشاركة في الفساد والاستحواذ غير القانوني على الحقل، لا بل و تظهر الآن ازدراءها للشعب التونسي من خلال رفض الوفاء بالتزاماتها، فضلا عن الوقوف إلى جانب القمع البوليسي. علاوة على ذلك، وجهت بتروفاك اتهامات متعالية إلى المتظاهرين الشباب من خلال تصريحات عماد درويش، الرئيس التنفيذي للشركة في تونس. ولسائل أن يسأل، كيف يمكن لبتروفاك أن تستمر في الإفلات من العقاب على جريمة ارتكبتها قبل عشر سنوات في عهد بن علي، رغم إنتفاضة 2010-2011؟

والحقيقة هي أن اللوبي النفطي قوي للغاية في تونس. إضافة إلى ذلك، فإن هيمنة صناعة البترول تجعل من التعتيم وعدم المساءلة أمراً مستباحا في هذا القطاع. على سبيل المثال، لا أحد يعرف ما هي حقيقة استكشاف واستغلال الغاز الصخري في البلاد، كما أن تصرّفات هذه الصناعة في جنوب تونس غير واضحة – من تطاوين إلى المنطقة العسكرية المغلقة (التي لم تغلق على ما يبدو أمام شركات النفط والغاز).

ويتضح لدارس قطاع النفط والغاز أن السلطات التونسية تعتبر الممارسات المرتبطة بصناعة البترول عش دبابير يهابون الإقتراب منه. وعلى الرغم من المسار الثوري الذي أطلقته الانتفاضة قبل أكثر من خمس سنوات، لا نزال الأساليب القمعية التي تستخدمها الدولة هي نفسها، دولة اختارت بوضوح أن تكون إلى جانب شركات النفط والغاز، على حساب المطالب المشروعة للناس الذين يريدون ببساطة أن يعيشوا حياة كريمة. لا ينبع خيار – أو بالأحرى الإضطرار- الإصطفاف وراء هذه الشركات المتعددة الجنسيات من فراغ، ويجب أن يُفهم في إطار النيوليبرالية وضمن الاتفاق المضاد للثورة المفروض على تونس بموافقة من النخبة المحلية التي تبدو خانعة لرأس المال العالمي.

أينما ذهبت في تونس، كنت أرى احتجاجات طويلة وشبابا معتصما. يوقفون إنتاج الصناعات الأساسية (مثل التنقيب عن الفسفاط والنفط والغاز، و غيرها) و يطالبون بالتشغيل. عدم قدرة الدولة على توفير الوظائف ليس إلا نتيجة لإصرار متهور على تطبيق نفس الوصفة السياسية الكارثية، وهي أحد أوجه العنف النيوليبرالي الذي يسلط بلا هوادة على التونسيين.

udc-kerkenah-sit-in

الأرخبيل وخطر تغير المناخ

قرقنة من أكثر الأماكن عرضة للخطر في البحر الأبيض المتوسط. و تتميز بمناخ شبه قاحل (متجه نحو الجفاف)، مع موسم صيف طويل و جاف، ودرجات حرارة مرتفعة وتبخر للمياه، ومعدل عجز المائي يبلغ 1000 ملم / سنة. ارتفاع مستوى سطح البحر نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري يهدد الأرخبيل المنخفض، حيث يبلغ اقصى إرتفاع  13 مترا، في حين لا يتجاوز مستوى بقية  الأراضي عشرة أمتار. وقد وثقت العديد من الدراسات تآكل وتراجع الخط الساحلي، بمقدار أكثر من عشرة سنتيمترات في السنة. في بعض المناطق، بلغ هذا التآكل أربعين مترا في أقل من خمسين سنة، وهو ما يؤكد خطر اختفاء الجزر. وقدمت دراسة قامت بها الحكومة التونسية حول أثر تغير المناخ في تونس توقعات مقلقة: يمكن أن يتحول الأرخبيل إلى عدد أكبر من الجزر الصغيرة والمساحة المغمورة قد تصل إلى 30٪ من مجموع مساحة الجزر(حوالي 4500 هكتار) بحلول عام 2100 إذا لم يتم تخفيض الانبعاثات الكربونية العالمية بشكل جذري.

اليوم نرى أنه في أقل من ثلاثة عقود، توسعت المناطق المسماة سباخاً (المسطحات الملحية الساحلية) و التي تشكل تقريباً نصف مساحة الأرخبيل، بنسبة 20٪. مياه البحر تتسرب إلى احتياطيات المياه الجوفية والتربة أصبحت أكثر ملوحة. كل هذا أدى إلى تفاقم ندرة المياه، مما أسفر عن موت أشجار النخيل المجاورة وتآكل الأرض الصالحة للزراعة، وزيادة التهديد الغذائي والضعف الاقتصادي للسكان.

أشجار النخيل مميزة للأرخبيل. إذ تعد بمئات الآلاف، و تتوزع بتفاوت على الجزر . ثروة تحتاج إلى حماية، خصوصا أن لها عدة استخدامات: الغذاء، وأدوات الصيد والصناعات التقليدية. هناك ضرر بيئي و بشري هائل مترتب عن خسارة تلك الأشجار بالمئات في ظل تغير المناخ.

انخفض عدد سكان الجزر بشكل كبير خلال ثمانينات القرن الماضي بسبب الجفاف. لم تكن قرقنة قادرة على توفير أنظمة الري المناسبة و نفاد المياه العذبة بسرعة، رحل عديد الأهالي إلى اليابسة، نحو صفاقس تحديداً. يقدّر عدد السكان حاليا ب 15،000 و يزيد هذا الرقم عشرة أضعاف ليصل إلى ما يقارب 150،000 في فصل الصيف، عندما يعود المهاجرون من الداخل والخارج. ونظرا إلى هشاشة النظام البيئي والقيود المناخية على الفلاحة والصيد البحري، توجد بعض المبادرات لتشجيع السياحة البيئية ( “التنمية السياحية المستدامة“) ،الوجه الآخر للرئسمالية الخضراء. لكن هذه المبادرات بقيت حبرا على ورق..

العنف الناجم عن تغير المناخ ليس طبيعيا، بل هو نتيجة لخيارات أصحاب السلطة: خيار الإبقاء على حرق البترول. تغير المناخ هو وجه واحد وجوه المنطق الامبريالي في نهب الطبيعة والناس، وصناعة النفط تلعب دورا حاسما في تكريس هذه الظاهرة. الشركات المتعددة الجنسيّات هي مسؤولة عنما يمكن أن يسمى “الاستعمار الطاقي”، و هو محاولة للاستيلاء على المزيد من الموارد من أجل زيادة أرباحها. ولا تبالي هذه الشركات بالتداعيات الإيكولوجية والاجتماعية لسياساتها، بما في ذلك تدهور البيئة (تلوث المياه في حالة قرقنة)، و استلاب شعوب في دول الجنوب.

و سيكون للتلوث البحري المتكرر الناجم عن هذه الصناعة، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة مياه البحر والصيد غير المشروع، تأثير ضار ومؤكد على أنشطة الصيد والنظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي في قرقنة. في وثيقة أعدت لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، تم تسليط الضوء على هذه المشكلة، وتم طرح احتمال تقييد نظام الصيد التقليدي في الجزر. وهناك تقارير أخرى تبعث على القلق رصدت انشطة تنقيب عن الغاز الصخري حتّى في البحار

التقارب بين تغير المناخ والنيوليبرالية

في اقتصاد نيوليبرالي كاقتصاد تونس، يؤدي إخضاع الاقتصاد لقواعد السوق إلى عدم المساواة و خوصصة المكتسبات الاجتماعية والفشل في خلق فرص عمل منتجة و لائقة. من المرجح أن تتفاقم مظاهر الهشاشة وعدم الاستقرار بسبب تغير المناخ  الذي يشكل “عامل مضاعف للخطر“. التقرير الذي نشره مركز الأبحاث المرتبط بالبنتاغون، CNA Corporation ، سنة 2007, عبر عن ذلك بكلّ وضوح  (بغض النظر عن تبريره لعسكرة العلاقات الدولية):

“العديد من الحكومات في المنطقة على حافة الهاوية من حيث قدرتها على توفير الاحتياجات الأساسية: الغذاء والماء والمأوى والاستقرار. وسيؤدي تغير المناخ إلى تفاقم المشاكل في هذه المناطق ويعمق غياب الحوكمة … الأوضاع الاقتصادية والبيئية في هذه المناطق الهشة ستواصل في الإنحدار مع تراجع إنتاج الغذاء وزيادة الأمراض و ندرة المياه النظيفة على نحو متزايد وهجرة السكان بحثا عن الموارد “.

إضافة إلى ذلك، تؤثر الرأسمالية النيوليبرالية على قدرة المجتمعات في الرد على التحديات ومواجهتها. ويقول كريستيان بارينتي في كتابه “مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف” بأن عقودا من الأمراض النيوليبرالية (بالإضافة إلى حقبة الحرب الباردة العسكرية) قد “شوهت علاقة الدولة بالمجتمع – من خلال إزالة وتقويض مهام الدولة الجماعية والتنظيمية ووظيفتها في إعادة التوزيع، في حين تنمّى قدراتها القمعية والعسكرية بشكل مفرط “. ومن شأن ذلك أن يحد من قدرة المجتمع على تجنب الاضطرابات العنيفة عندما يضرب تغير المناخ بقوة.

إستخدم بارينتي مفهوم “التقارب الكارثي” للحديث عن اصطدام الكوارث السياسية والاقتصادية والبيئية التي تفاقم وتضخم بعضها البعض. في هذا الصدد، فإن الاضطرابات الحالية والوشيكة لتغير المناخ في قرقنة وتونس بشكل عام، تتقاطع مع أزمات الفقر والعنف النيوليبرالي. وفي ظل الإجابة الأمنية والعسكرية على تهديد “الإرهاب”، فإن التكيف مع تغير المناخ سوف  يمر حتماً عبر الحل الأمني و العسكري حِمايةً للأقوياء ومصالح الأغنياء. وعلاوة على ذلك، في عصر الرأسمالية الكارثة (لاستخدام تعبير ناعومي كلاين)، إن فوضى المناخ التي من شأنها أن تؤدي إلى غرق أرخبيل قرقنة يمكن أن تُستغل كفرصة لتحقيق المزيد من الربح – والمزيد من السلب.

السيادة على الموارد الطبيعية: صراع حاسم من أجل العدالة المناخية

استعادة سيادة الموارد الطبيعية والقطع مع آليات السوق خطوات ضرورية على طريق التكيف مع تغير المناخ. ويتأكد   ذلك إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة المناخية، حيث يتم التركيز على التقليل من العبء الملقى على المهمشين، المحرومين والضعفاء. ويمثل التحكم الديمقراطي في هذه الموارد  خطوة حيوية أخرى في  الانتقال من المحروقات إلى الطاقة المتجددة. كيف يمكن اتخاذ مثل هذه القرارات الهامة المتعلقة بالطبيعة والهيكل والغرض من أنظمتنا الطاقية دون مساهمة المواطنين؟

غَيْرَ أَنَّ السيطرة الديمقراطية والبيئية والتعديلية على مصادر الطاقة لا يمكن أن تحدث طالما أن شركات النفط والغاز تستأثر بحصة الأسد من مواردنا. خذ على سبيل المثال حالة بريتش غاز (BG)، أكبر منتج للغاز في البلاد، والذي يزود حوالي 60٪ من إنتاج الغاز المحلي في تونس من خلال إستغلال حقلي مسكار و صدربعل. يمتلك BG تونس  100٪ من حقوق إستغلال حقل مسكار. و مسكار هو حقل الغاز الأكثر إنتاجية في البلاد، و يقع في خليج قابس على بعد 125 كم من اليابسة. تتم معالجة الغاز في محطة حنبعل ثم يباع بموجب عقد طويل المدى، إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG)، بقيمة السوق الدولية وبالعملة الصعبة. والنتيجة هي أن الغاز التونسي يباع للتونسيين كما لو كان سلعة مستوردة!

مثال واضح آخر هو ذاك المتعلق بكوتزال، شركة الملح الفرنسية التي بدأت استغلال الملاحات التونسية خلال الحقبة الاستعمارية (أوائل القرن العشرين). تجنبت كوتزال التأميم بعد الاستقلال في عام 1956 وحافظت على مركز احتكاري في السوق لمدة قرن تقريبا، حتى عام 1994 تاريخ دخول أول منافس لها.

يستمر استغلال الملاّحات في إطار اتفاق يعود إلى عام 1949، يوفر للدولة التونسية عائدات هزيلة. وتنتج الشركة حوالي 1 مليون طن من الملح، و تصدر ثلاثة أرباعها، لتحقق 32 مليون دينار من الأرباح سنة 2014 (حوالي 14 مليون يورو). ولكن هذا لم يمنع الشركة من التخلف عن دفع الأدآت المتخلدة بذمتها، والتي تبلغ 5.7 مليون دينار (2.5 مليون يورو) تراكمت على مدى خمس سنوات (2007-2012).

في إقتباس للكلمات البليغة للكاتب الأمريكي اللاتينيي الراحل إدواردو غاليانو، يبدو أن “النخبة الحاكمة ليست لها مصلحة على الإطلاق في تحديد ما إذا كان حب الوطن قد لا يكون أكثر ربحية من الخيانة، وعما إذا كان التسول هو الصيغة الوحيدة للسياسة الدولية”. يتم رهن السيادة من قبل النخبة الحاكمة التونسية التي قبلت (وما زالت تقبل) عمليات السلب والنهب المستمر للموارد الطبيعية، متسببة في فقرنا عن طريق تغذية ازدهار الآخرين.

الخاتمة

جزر مثل جزر قرقنة توجد في الخط الأمامي للتغير المناخي إذ أن بقاءها على قيد الحياة مهدد بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر. يتجه المناخ في الأرخبيل نحو الجفاف وزيادة ملوحة التربة، مما يؤدي إلى تفاقم الإجهاد المائي و إنعدام الأمن الغذائي لدى سكان الجزر.

تتفاعل آثار تغيّر المناخ وأزمة المناخ  مع التدهور البيئي واستنزاف الموارد الطبيعية الناجم عن نموذج تنمية إنتاجي قائم على أساس الإستخراج، كآلية للنهب الاستعماري والاستعمار الجديد و الاستيلاء. ويستند هذا النموذج على المراكمة عن طريق السلب، وتنمية التخلف والعنف الاجتماعي والبيئي. هذه هي مفارقة الإستخراجية في ظل الرأسمالية، حيث يتم إنشاء مناطق تضحية من أجل الحفاظ على تراكم رأس المال. و ما قرقنة إلا مثال على ذلك.

يضطر الناس في قرقنة إلى التكيف مع وضع لم يخلقوه، و هم تحت رحمة ملوثين أقوياء وفاسدين يختبئون وراء درع قمع الدولة. أدرك توماس سانكارا، القائد البوركيني الثوري والمتبصر، مبكراً كيف تم استخدام الفساد  من قبل المافيا الرأسمالية الدولية  كأداة لغزو الأسواق ونهب موارد دول الجنوب .حتى لا يصبح أهالي قرقنة لاجئي مناخ ويستعيدوا السيطرة على حياتهم و بيئتهم و مواردهم و مصيرهم، لا بد من احتواء صناعة البترول ومحاسبتها، لأن استمرار عملياتها التدميرية هو أقرب ما يكون إلى الحكم بالإعدام على الجزر.

[1]سيتم توثيق كل تفاصيل هذه الصفقة الفاسدة في تقرير شاركت في تأليفه و سينشر قريباً على الموقعPlatform London.